يحتاج البحث العلمي في مؤسسات التعليم العالي إلى استراتيجية علمية واضحة المعالم، وقابلة للتطبيق وقبل ذلك إدارة سياسية داعمة، تؤمن بأهمية البحث العلمي في تقدم وتطور الدول والمجتمعات، كما يحتاج إلى إدارات جامعية مؤهلة أكاديمياً وقيادياً. والبحث العلمي يقوم به علماء مبدعون في ميادينهم، مدركون أوضاع أوطانهم وحاجاتها، قادرون على تقصي كل ما هو حديث وطرح الأسئلة، وتلقي الأجوبة. والبحث العلمي باختصار هو الطريق إلى مواكبة العصر في جميع الميادين تتولاه مراكز ومجالس للبحوث العلمية الاقتصادية والصناعية والزراعية والصحية والسياسية والاجتماعية وتكون الجامعة هي النبع الذي يرفد جميع هذه المراكز والمجالس. ومما لاشك فيه أن من أهم مقومات البحث العلمي والتطوير توفر حرية أكاديمية مسؤولة في مقاربة مشكلات المجتمع، كما ويحتاج البحث العلمي الرصين للدعم المادي والمعنوي الكافي، وكذلك المتطلبات الضرورية من التقنيات الحديثة، والمختبرات والمراكز العلمية الملائمة، والخدمات الإدارية المساندة، فبهذه الشروط تمكنت البحوث العلمية في جامعات الغرب من إدخال تغييرات جذرية على برامجها التعليمية، ونظمها الإدارية والاقتصادية والاجتماعية. والناظر لوضع البحث العلمي في العالم العربي يلحظ أن هناك الكثير من العقبات والصعوبات التي تعترض البحث العلمي وتحد من أدائه لدوره المؤمل منه، مما أدى إلى تأخر عملية التنمية والتطور في هذا الجزء من العالم. وسنناقش في عجاله بعض العقبات والصعوبات التي تعترض البحث العلمي في العالم العربي لتشخيص المشكلة لعل أن يتم وضع الحلول المناسبة لها. العقبات والصعوبات التي تعترض البحث العلمي في العالم العربي: هناك العديد من العقبات والصعوبات تواجه البحث العلمي في الوطن العربي وبالإمكان إجمالها في النقاط التالية: 1) التقليل من قيمة البحث العلمي: لا تزال بعض الدول العربية أو بعض الإدارات فيها لا تعي قيمة البحث العلمي، وبالتالي لا تعمل جاهده على تمكين البحث العلمي وتيسير أموره، فهي ترى أنه ترف فكري أو علمي وليس هناك داعي لإضاعة المال والوقت على البحوث العلمية، وهذه الإشكالية تنعكس على نقاط أخرى كثيرة في إجراءات البحث العلمي. 2) نقص التمويل: حتى في الأحوال التي نجد فيها اهتمام البحث العلمي نجد أن هناك نقص في تمويل البحوث العلمية، وعدم تخصيص الميزانيات الكافية لإجراء البحوث بالطريق المناسبة، وكنسبة عامة فإن ما يخصص للبحوث لا يتجاوز في العادة أكثر من 2% من ميزانية المنشأة. هذا الوضع دفع ببعض الباحثين إلى تسول البحوث من جهات غير أكاديمية، مما يكون له انعكاس سلبي على جودة البحوث ومصداقيتها. 3) الفساد الإداري: يلاحظ تفشي ظاهرة الفساد الإداري في كثير من القطاعات الرسمية التي لديها ميزانيات للبحوث، حيث يضطر الباحث إلى إشراك بعض منتسبي تلك القطاعات إلى فريق البحث رغم عدم حاجته إليهم وذلك لضمان أن يحصل على تمويل البحث. وقد يأخذ الفساد أشكال أخرى تتمثل في اقتطاع جزء من ميزانية البحث لرشوة بعض المسئولين. ومن ألوان الفساد الشائع قيام بعض الجهات الحكومية ومؤسسات التمويل بالطلب من الباحثين تقديم مقترحات بحثية Proposals لطرح البحث مناقصة. يقوم الباحث بعد ذلك بتقديم تصور أو مقترح للبحث ويعدله ميزانية متقنة، إلا أنه وبعد طول انتظار يفاجأ الباحث بأن أفكاره قد تم إعطائها لمجموعة بحثية أخرى للإفادة منها، ويعد ذلك نوع من الفساد المتمثل بالمحسوبية وعدم النزاهة العلمية. 4) سرية الأرقام: إحاطة الأرقام والإحصاءات الرسمية بسرية غير مبررة، وعدم تزويد الباحث بها تحت دعاوي أنها معلومات أمنية، في الوقت الذي يمكن الحصول على تلك المعلومات من جهات أجنبية كالبنك الدولي ومنظمات دولية أخرى. 5) صعوبة الحصول على معلومات: تعذر الوصول إلى بعض أوعية المعلومات خاصة في الإدارات الحكومية التي تضع عراقيل أمام الباحثين أو في الدول التي تمارس حجب بعض مواقع الإنترنت. 6) الصعوبات الميدانية: وجود صعوبات ميدانية تواجه عملية جمع البيانات، وعدم تسهيل مهمة الباحث والريبة فيه وبأهدافه، وإفتراض أن لديه أجندة خفية. فبوابي المعلومات Gate Keeper قد يعيقون دخول الباحث إلى بعض الأماكن التي يتطلبها البحث كالسجون والإصلاحيات أو المستشفيات. 7) نقص المصادر العلمية: يعاني بعض الباحثين من نقص المصادر العلمية كالكتب والمراجع والمقالات العلمية، وعدم قدرة البعض على الإفادة من أوعية المعلومات المتاحة خاصة الأوعية الإلكترونية، إما لعدم إلمامهم بطرق الإفادة من التقنية الإلكترونية، أو لعدم توفرها أصلاً.
عدم جدية البحوث: عدم ملامسة البحوث "للقضايا الجدية" إيثاراً للسلامة، الأمر الذي يتطلب سن قوانين وأنظمة لحماية الباحثين من تعسف السلطات الأمنية. 9) هدف البحث: معظم البحوث التي يقوم بها أساتذة الجامعات تتم بهدف الترقية العلمية دون أن تكون بالضرورة بحوث جادة، كم أنها لا تلامس الواقع المعيشي والحاجة العلمية الحقيقية. 10) المرأة الباحثة: تعاني المرأة الباحثة من صعوبات جمه خصوصاً عند القيام ببعض البحوث التي تتطلب جمع بيانات ميدانية، مما يعيق تطور المرأة في المجال العلمي. 11) عدم تساوي فرص الجنسين: معظم الباحثات لا يحصلن على فرص متساوية لما يحصل عليه الرجال من حيث الوصول إلى مصادر التمويل أو المشاركة في المؤتمرات العلمية التي تتطلب إعداد بحوث أو أوراق عمل، بل قد لا يوجه إليهن دعوات للمشاركة من قبل الجهات المنظمة لتلك المؤتمرات. 12) بحوث للرفوف: معظم البحوث وخصوصاً الأكاديمية لا يتم الإفادة منها بالشكل المطلوب ويتم وضعها على الرفوف، ما يعني أن الجهد الذي بذل في البحث والدراسة يذهب هباءً. 13) إحباطات الباحث: عدم جدية بعض الباحثين، إما لخلل في ذواتهم أو للاحباطات التي يواجهونا، وبالتالي لا يتم الاهتمام بشكل كبير في إجراء البحث وتطبيقه، وقد يتم إسناده لباحثين من الباطن مما قد يخل بالبحث وقيمته العلمية. هذه بعض الصعوبات والعقبات التي تواجه البحث العلمي في العالم العربي، وهي تحتاج إلى وقفة جادة من قبل المسئولين من أجل تطوير إجراءات البحث العلمي وتوفير الدعم اللازم له، ليرتقي إلى مصاف البحث العلمي في الدول المتقدمة.